كنا جالسين أسفل تلك الشجرة ، على حافة الحقل القبلى ، غارقين حتى آذاننا فى مناقشات غريبة لا نفهم منها شيئا ، وكلما ألقى أحدنا سؤالا أجابه آخر بإجابة تصلح لسؤال آخر تماما ، بينما تدور ذراع النارجيلة الطويلة علينا بالترتيب ، وكلما انتهى أحدنا منها أعطاها لمن يليه وهو يقول "صباح الخير!!" ... ليست مشكلة كما ترى ، حتى عندما ألقى علينا القمر ضوءه الفضى المتلأليء ، ووجوهنا التى أعياها السهر وأنتظار بزوغ الفجر تبدو لكائنات أخرى ، بحيث أصبح كل منا يجد صعوبة بالغة فى التعرف على صاحبه الجالس ... متى بدأت المشكلة؟ حقيقى أنا لم أدرك أنها مشكلة إلا بعدما أنتهت تماما ، صحيح أننى ما زلت أتحسس جرح جبهتى ، بضمادته البيضاء ، إلا أن هذا الجرح تحديدا هو الذى أفاقنى ، وجعلنى أسمع هتاف الغفر التابعين للعمدة وهم يهتفون بنا ، أن نكف عن العراك وإلا سيسحبوننا من أقفيتنا الى السجن ... ولك أن تعلم أن السجن فى بلدنا لا يشبه السجون المعروفة فى البلاد الأخرى ... هو شديد الأتساع وعدد قاطنيه فى إزدياد كبير كل يوم ... لدرجة أن الغفر يجدون صعوبة بالغة فى تذكر من دخل اليوم او أمس .. أما من دخلوه منذ سنوات ، فعليك أن تفقد الأمل فى خروجهم منه .. غير أنى سمعت أن الغفر الآن يبحثون عن بعض الأفراد بتكليف من العمدة نفسه .. والسبب أنهم سيعقدون معهم إتفاقا لتأديب بعض أفراد جماعة المشاكسين .. والسبب طبعا واضح .. العمدة رجل كبير السن وهو يريد أن يرث إبنه العمودية من بعده ،ولكن جماعة المشاكسين وهم كثيرون بالمناسبة ، يقفون له بالمرصاد ويظنون أنفسهم قطا بينما هم لعبة فى أيدى القط ... أخذنا الكلام وأنا لم أحك لك بعد عن سبب الشجار الذى حدث فى تلك الليلة .. فجأة وبينما نحن جالسين أسفل تلك الشجرة نتناوب دفقات الدخان الأزرق ، إذا بأحدهم يصرخ " وا مصيبتاه .. أغيثونا يا من تحبون الله .. أيها المتدينون أغيثوا دينكم .. أنهم يريدون بناء بيت .. يزعمون أنهم يصلون فيه لله .. ولكن الحقيقة غير هذا .. أغيثوا دينكم " .. ولم يكن نداء الرجل قد أنتهى بعد ، عندما كنا نحن اول من تحرك من اسفل الشجرة ، وأخذنا نعدوا مترنحين نحو مصدر الصوت .. وهناك وجدنا المشاجرة قد بدات بالفعل ولم نعد نعرف شيئا عن البادىء .. ولكن هذا لا يهم الآن يجب علينا الدفاع عن ديننا بكل ما اوتينا من قوة وعزم .. وهكذا بإذرع فاترة من أثر الدخان .. تناول كل منا ما أستطاع حمله بدءاً من حجر صغير لطيف الحجم ولكن اثره على الوجه شديد الوطء ، خاصة وان من قذفه كان جالسا معنا تحت الشجرة ..وأنتهاءاً بأقمشة مكورة مشتعلة وقد بللها البنزين .. مرورا بالشوم والعصى الغليظة فضلا عن القبضات والركلات وما الى ذلك .. الغريب فى الأمر .. أن الذين كانوا يريدون بناء البيت أيضا ،يبدون كما لو كانوا جالسين معنا أسفل الشجرة ، حيث لم يرتفع صوت عاقل واحد يدعو الى الهدوء والتريث ومناقشة الأمر بحكمة .. وأستمرت المشاجرة ما يقرب من ساعة أو ساعتين قبل أن نخضع جميعا لتهديد الغفر ونتفرق كل منا الى حاله حاملا جرحا فى رأسه أو ألما فى قلبه..أصدقك القول: لو لم نكن جالسين فى تلك الليلة الطويلة أسفل الشجرة كما هى عادتنا ، فربما ما كانت هناك مشاجرة من الأصل ، ثم أن جيراننا الذين بنوا البيت أستغلوا فرصة جلسة المزاج وقاموا بالبناء فى سرعة ، علنا لا نلحظهم ، ولكن أخطأ ظنهم .. نحن لم نصمت أبدا .. حتى لو استعانوا باقاربهم فى البلاد المجاورة .. تسألنى لماذا أحكى لك كل هذا ؟؟لأننى عندما مررت بدوار العمدة لمحت تلك القناة الأخبارية وهم يتحدثون بلغة غريبة عن مشاجراتنا بعد نصف ساعة فقط من بدايتها كما لو كانوا ينتظرونها .. هل تصدق أننى رأيت نفسى فى التلفاز .. إمرأتى أيضا لن تصدق هذا .. وحتى الولد (حمدان) لن يصدق .. ولكنى لن اصمت سأدور على البلد كلها فردا فردا لأخبرهم بالملحمة التى أشتركت فيها .. فقط كنت أود أن أعرف أكثر حتى أستطيع أن أخبرهم .. ولهذا سألتك .. كنت آملا أن تخبرنى بحقيقة ما حدث فأنت تعلم أننى كنت جالسا هناك تحت الشجرة .. أتراك كنت معنا أنت الآخر؟
تمت
بقلم/أحمد رشاد
تمت
بقلم/أحمد رشاد
القصة نشرت فى موقع بص وطل
No comments:
Post a Comment