Friday, April 25, 2008

المسّــــــاح ... قصة قصيرة

المسّــــاح
قصة قصيرة


أن تحصل على رزقك من أحذية الآخرين لهو أمر غريب بالتأكيد ..
خاصة لو كنت قد اخترت انت هذه الطريقة كما اختار أنا وسيلة مواصلاتى ...تعودت أن أحب مهنتى حتى وإن لم تكن هى الافضل .. ولو قدر لى أن أختار غيرها لأحببت العمل رئيسا لهذا البلد .. لكن منذ متى ندرك ما نتمناه؟.. من فضلك لا تنظر لى من الخارج .. أنا احب النظافة وموهوب فيها ايضا.. فهل من مشكلة؟ .. من السهل إذا أن تجدنى هنا فى ميدان (رمسيس ) وإن أصبحت أشعر بنوع من الوحشة بعد أن نقلوا صديقى رمسيس الى مكان آخر مجهول وتركوا مكانه شاغرا ومرتعا لمن يطمع فيه .. والطريق يمضى بصنوف المارة ..ربما كان المار امامى أحد هؤلاء البسطاء أو الاغنياء .. أهو اجنبي؟ أم لعله مصري؟! .. ربما توهمته أجنبيا وهو مصرى أو العكس .. هذا زمن أختلط فيه المستثمر بالمواطن المصرى لينتج خليطا ربما يثير الإشمئزاز لدى البعض أو السعادة لدى البعض الآخر.. ربما كان المار أمامى طالبا جامعيا كما كنت أنا منذ عامين .. ربما كان عاملا .. نساء كثيرات لا تتوقف إحداهن عندى أبدا .. ولا تتوقف عيناى على إحداهن طويلا ..
هكذا ترانى جالسا جوار سور المحطة قرب المدخل وانا أهتف بالمارة كى ينظفوا أحذيتهم بموهبتى المتألقة .. لم أعتد الإنتظار طويلا حتى يضع أحدهم قدمه فوق صندوق (العدة) ، وسيلتى لأكتساب الرزق .. كنت أبدأ فى تلميع الحذاء وأغيب فى عالم النشوة اللذيذ وزبونى يميل رأسه يمنة ويسرة ويرفع يده مداريا اشعة الشمس الحارقة والتى أعطيها ظهرى دائما .. ولولا حبى لمهنتى لما أحتملت تلك النظرات التى أعتدت تجاهلها مع الوقت ، وأستغرق فى عملى ولا أنظر لصاحب الحذاء إلا لآخذ أجرتى ..
(تك تك)
يرفع زبونى قدمه كى يضعها فوق صندوق العدة ..
(تك تك)
نغمة أعزفها بخبطات ظهر الفرشاة فوق الصندوق فيخفض هو قدمه ويضع الأخرى .. وعلى نغماتى الموسيقية يحرك الرجل قدميه مطيعا كما يطيع أفراد فرقة موسيقية قائدهم ... يخرج اللحن رائعا .. والحذاء نظيفا لامعا .. وزبونى يصبح أكثر احتراما بحذائه البراق .. ومع الضربة الرابعة أو السادسة تزيد نقودى جنيها جديدا .. لو حسبت ثمن هاتفى المحمول لوجته ألف حذاء بالتمام والكمال .. حذائى نفسه ربما ساوى مائة حذاء والآخر مئتى وخمسين ..
تعودت أن أعرف زبونى وأقيمه .. من حركة قدمه .. من ساق بنطاله .. بل وأصبحت أتوقع كذلك ثمن مسحة الحذاء .. هذا موظف شريف غالبا لا يمر علىّ إلا مرة كل أسبوع .. وهذا زميله يمر علىّ مرتين يوميا ..
اها .. هذه أقدام زبون جديد ..
عرفته أيضا من بنطاله وحذائه الذى أحفظ شكله تماما .. رفعت رأسى كى أتأكد من زيه الرسمى الأنيق ورتبته اللامعة فوق كتفيه وقد زادتها أشعة الشمس المنعكسة هيبة وإن حجبتْ نظارته السوداء أشعة الشمس عن عينيه فلم يخفض رأسه قط .. تخيلت نظرته من خلف النظارة وقد أختلطت فيها الصرامة بالزهو والغرور ..
(تك تك)
إنتابتنى نشوة غريبة وأنا أحرك قدم الضابط بخبطاتى فوق الصندوق ..
(تك تك)
للمرة الأولى ربما، يطيعنى صاحب السلطة الذى يحرك فرق الأمن المركزى بأوامره الحازمة ... أعجبنى الأمر لدرجة أننى أستغرقت وقتا مضاعفا كى أنظف له حذائه الذى سرعان ما يتسخ من جديد رغم ضعف حركته ، هو الجالس فوق المقعد معظم ساعات اليوم!!
(تك تك)
كان معجبا هو الآخر بإهتمامى بينما أنا معجب بطاعته لى! ..
(تك تك)
ابتسامة مزهوة على وجهه
(تك تك) يرفع رأسه متظاهرا بالملل ويحرك يده لينظر فى الساعة متعجلا ويقول بلهجة آمرة :ــ أما زال أمامك الكثير؟
ــ حالا يا (باشا) ... حذاؤك يختلف حتما عن الباقيين !
وعلى شفتىّ أرتسمت ابتسامة ساخرة لن يلمحها حتما ، وقد اعتاد أن ينظر فى مستوى كتفيه أو أعلى بينما كان وجهى الى حذائه ..
(تك تك)
ــ تمام يا باشا .. كله تمام !
خفض قدمه بجوار الاخرى وهمّ بالإنصراف لولا أن قلت فى استعطاف :
ــ أتحب سيادتك أن امر عليك هناك .. جنيه فقط هو ثمن المسحة ..
زادت صرامة وجهه وأدار عينيه فى الواقفين ثم عاود النظر لى وأمتدت يده الى جيب سترته الميرى وأخرج رزمة نقد ، انتقى منها جنيها قديما ناولنيه بطرف يده وألقى علىّ نظرة أخيرة قبل أن ينصرف .. كان هو الجنيه الخمسون لى فى يومى هذا وإن شعرت بمئة جنيه فى جيبى ونشوة بالنصر فى أعماقى .. وفى إعجاب تطلع زبائنى الىّ دون أن يجرؤ أحدهم على إبداء مشاعره بينما جاء أحدهم واضعا قدمه فوق الصندوق ..
(تك تتك تك) .. (تتك تك تك) ..
جنيها جديدا فى جيبى وزبونا جديدا يتقدم ..
ربع الساعة مرت ومرة أخرى لمحت حذاء رسميا ..
أكبر حجما أكثر طولا .. (تك تك) تعلق الحذاء بقدم صاحبه لحظة فى الهواء .. رفعت رأسى متطلعا الى صاحبه .. كان أحد عساكر الأمن المركزى الذين يملأون الميادين ..
(تك تــ ) لحظة أخرى مرت وهوت قدمه فوق الصندوق !!...
هؤلاء العساكر لا يعرفون الرفق قط .. لقد تحطم صندوق رزقى وتناثرت أصباغه فوق الرصيف وسط دهشة المارة والزبائن وصمتهم العجيب ،
أما أنا فقد تراجعت بظهرى مرتطما بسور المحطة ورفعت رأسى أتطلع الى ملامح الجندى وقد أرتسمت البلادة والإصرار على وجهه وقد عزم على إكمال ما بدأه .. وبنفس اصراره هذا تملصت من قدمه بصعوبة وانتفضت واقفا وقد أسلمت قدمىّ للطريق عدوا دون أن التفت خلفى .. ورغم عرجة ساقى البسرى إلا أنه لم يستطع اللحاق بى قط .. ومن بعيد فى مخبأى لمحته وقد وقد غزا الغضب الصطنع بلادة وجهه، بينما إرتفعت قامتى وأعتدلت وعلت شفتى ابتسامة لم تنجح أنفاسى اللاهثة فى كتمانها ..
حتما سيتغير الضابط وساعود الى مكانى القديم ..
وساصنع صندوقا جديدا .. أكثر صلابة!
تمت
أحمد